الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: أصول السرخسي ***
قال رضي الله عنه: اعلم بأن الممانعة أصل الاعتراض على العلة المؤثرة من حيث إن الخصم المجيب يدعي أن حكم الحادثة ما أجاب به، فإذا لم يسلم له ذلك يذكر وصفا يدعي أنه علة موجبة للحكم في الأصل المجمع عليه وأن هذا الفرع نظير ذلك الأصل، فيتعدى ذلك الحكم بهذا الوصف إلى الفرع، وفي هذا الحكم دعويان فهو أظهر في الدعوى من الأول، أي حكم الحادثة، وإن كانت المناظرة لا تتحقق إلا بمنع دعوى السابق عرفنا أنها لا تتحقق إلا بمنع هذه الدعاوى أيضا فيكون هو محتاجا إلى إثبات دعاويه بالحجة، والسائل منكر فليس عليه سوى المطالبة لاقامة الحجة بمنزلة المنكر في باب الدعاوى والخصومات، وإليه أشار صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم حيث قال للمدعي: (ألك بينة) وبالممانعة يتبين العوار، ويظهر المدعي من المنكر، والملزم من الدافع بعدما ثبت شرعا أن حجة أحدهما غير حجة الآخر. ثم الممانعة على أربعة أوجه: ممانعة في نفس العلة، وممانعة في الوصف الذي يذكر المعلل أنه علة، وممانعة في شرط صحة العلة أنه موجود في ذلك الوصف، وممانعة في المعنى الذي به صار ذلك الوصف علة للحكم. أما الممانعة في نفس العلة فكما بينا أن كثيرا من العلل إذا تأملت فيها تكون احتجاجا بلا دليل، وذلك لا يكون حجة على الخصم لاثبات الحكم. وبيان هذا فيما علل به الشافعي رحمه الله في النكاح أنه ليس بمال فلا يثبت بشهادة النساء مع الرجال كالحدود والقصاص. وهذا النوع لا يصلح حجة لايجاب الحكم عندنا على ما بينا، فترك الممانعة فيه تكون قبولا من الخصم ما لا يكون حجة أصلا وذلك دليل الجهل، فكانت الممانعة في هذا الموضع دليل المفاقهة. وأما ممانعة الوصف الذي هو العلة فبيانه فيما علل به أبو حنيفة ومحمد رضي الله عنهما أن الايداع من الصبي تسليط على الاستهلاك، فإن مثل هذا الوصف لا بد أن يكون ممنوعا عند الخصم، لأن بعد ثبوته لا يبقى للمنازعة في الحكم معنى. ونحو ما علل به أبو حنيفة فيمن اشترى قريبه مع غيره أن الاجنبي رضي بالذي وقع العتق به بعينه ونحو ما علل به علماؤنا في صوم يوم النحر أنه مشروع لانه منهي عنه، والنهي يدل على تحقق المشروع ليتحقق الانتهاء عنه كما هو موجب النهي، فإن عند الخصم مطلق النهي بمنزلة النسخ حتى ينعدم به المشروع أصلا. فلا بد من هذه الممانعة لمن يريد الكلام في المسألة على سبيل المفاقهة. وأما الممانعة في الشرط الذي لا بد منه ليصير الوصف علة، بيانه فيما ذكرنا أن من الاوصاف ما يكون مغيرا حكم الأصل ومن شرط صحة العلة أن لا يكون مغيرا حكم النص، وذلك نحو تعليل الاشياء الاربعة بالطعم فإنه يغير حكم النص، لأن الحكم في نصوص الربا حرمة الفضل على القدر وثبوت الحرمة إلى غاية وهو المساواة، والتعليل بالطعم يثبت في المنصوص حرمة فضل لا على القدر، وحرمة مطلقة لا إلى غاية المساواة، يعني في الحفنة من الحنطة، وفيما لا يدخل تحت القدر من المطعومات التي هي فرع في هذا الحكم، فلا بد من هذه الممانعة، لأن الحكم لا يثبت بوجود ركن الشئ مع انعدام شرطه. وأما الممانعة في المعنى الذي يكون به الوصف علة موجبة للحكم شرعا فهو المطالبة ببيان التأثير، لما بينا أن العلة به تصير موجبة للحكم شرعا وهي الحكمة الباطنة التي يعبر عنها بالفقه. والحاصل أن في الدعوى والانكار يعتبر المعنى دون الصورة، فقد يكون المرء مدعيا صورة وهو منكر معنى، ألا ترى أن المودع إذا ادعى رد الوديعة يكون منكرا للضمان معنى، ولهذا كان القول قوله مع اليمين، وإنما جعل الشرع اليمين في جانب المنكر. والبكر إذا قالت: بلغني النكاح فرددت، وقال الزوج بل سكتت، فالقول قولها عندنا، وهي في الصورة تدعي الرد ولكنها تنكر ثبوت ملك النكاح عليها في المعنى، فكانت منكرة لا مدعية. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف رضي الله عنهما: إذا اختلف المتبايعان في الثمن بعد هلاك السلعة فالقول قول المشتري مع يمينه، وهو في الصورة يدعي بيعا بأقل الثمنين ولكنه في المعنى منكر للزيادة التي يدعيها البائع، فعرفنا أنه إنما يعتبر المعنى في الدعوى والانكار دون الصورة. إذا ثبت هذا فنقول: هذه الوجوه من الممانعة تكون إنكارا من السائل فلا حاجة به إلى إثبات إنكاره بالحجة، واشتغاله بذلك يكون اشتغالا بما لا يفيد، وقوله إن الحكم في الأصل ما تعلق بهذا الوصف فقط بل به وبقرينة أخرى يكون إنكارا صحيحا من حيث المعنى وإن كان دعوى من حيث الصورة، لأن الحكم المتعلق بعلة ذات وصفين لا يثبت بوجود أحد الوصفين. وذلك نحو ما يعلل به الشافعي رحمه الله في اليمين المعقودة على أمر في المستقبل لانها يمين بالله مقصودة فيتعدى الحكم بهذا الوصف إلى الغموس. فإنا نقول: الحكم في الأصل ثبت بهذا الوصف مع قرينة وهو توهم البر فيها فيكون هذا منعا لما ادعاه الخصم والخصم هو المحتاج إلى إثبات دعواه بالحجة. فأما قول السائل: ليس المعنى في الأصل ما قلت وإنما المعنى فيه كذا، هو إنكار صورة ولكنه من حيث المعنى دعوى وهو دعوى غير مفيد في موضع النزاع، لانه لا يمكنه أن يقول في موضع النزاع لتقرير ذلك المعنى سوى أن هذا المعنى معدوم في موضع النزاع، وعدم العلة لا يوجب عدم الحكم وإن كان هذا يصلح للترجيح به من وجه، على ما نبينه إن شاء الله تعالى.
قال رضي الله عنه: تفسير القلب لغة: جعل أعلى الشئ أسفله وأسفله أعلاه. من قول القائل: قلبت الاناء إذا نكسه، أو هو: جعل بطن الشئ ظهرا والظهر بطنا. من قول القائل: قلبت الجراب إذا جعل باطنه ظاهرا وظاهره باطنا، وقلبت الامر إذا جعله ظهرا لبطن. وقلب العلة على هذين الوجهين. وهو نوعان: أحدهما جعل المعلول علة والعلة معلولا، وهذا مبطل للعلة، لأن العلة هي الموجبة شرعا والمعلول هو الحكم الواجب به فيكون فرعا وتبعا للعلة، وإذا جعل التبع أصلا والأصل تبعا كان ذلك دليل بطلان العلة. وبيانه فيما قال الشافعي في الذمي إنه يجب عليه الرجم لانه من جنس من يجلد بكره مائة فيرجم ثيبه كالمسلم. فيقلب عليه فنقول: في الأصل إنما يجلد بكره لانه يرجم ثيبه فيكون ذلك قلبا مبطلا لعلته باعتبار أن ما جعل فرعا صار أصلا وما جعله أصلا صار تبعا. وكذلك قوله: القراءة ركن يتكرر فرضا في الأوليين فيتكرر أيضا فرضا في الاخريين كالركوع. وهذا النوع من القلب إنما يتأتى عند التعليل بحكم لحكم، فأما إذا كان التعليل بوصف لا يرد عليه هذا القلب، إذ الوصف لا يكون حكما شرعيا يثبت بحكم آخر. وطريق المخلص عن هذا القلب أن لا يذكر هذا على سبيل التعليل بل على سبيل الاستدلال بأحد الحكمين على الآخر، فإن الاستدلال بحكم على حكم طريق السلف في الحوادث، روينا ذلك عن النبي عليه السلام وعن الصحابة رضي الله عنهم، ولكن شرط هذا الاستدلال أن يثبت أنهما نظيران متساويان فيدل كل واحد منهما على صاحبه، هذا على ذاك في حال وذاك على هذا في حال، بمنزلة التوأم فإنه يثبت حرية الأصل لاحدهما أيهما كان بثبوته للآخر، ويثبت الرق في أيهما كان بثبوته للآخر، وذلك نحو ما يقوله علماؤنا رحمهم الله. وبيانه فيما قال علماؤنا: إن الصوم عبادة تلزم بالنذر فتلزم بالشروع كالحج، فلا يستقيم قلبهم علينا، لأن الحج إنما يلزم بالنذر لانه يلزم بالشروع، لانا نستدل بأحد الحكمين على الآخر بعد ثبوت المساواة بينهما من حيث إن المقصود بكل واحد منهما تحصيل عبادة زائدة هي محض حق الله تعالى، على وجه يكون المعنى فيها لازما، والرجوع عنها بعد الاداء حرام، وإبطالها بعد الصحة جناية، فبعد ثبوت المساواة بينهما يجعل هذا دليلا على ذاك تارة وذاك على هذا تارة. وكذلك قولنا في الثيب الصغيرة من يكون موليا عليه في ماله تصرفا يكون موليا عليه في نفسه تصرفا كالبكر، وفي البكر البالغة من لا يكون موليا عليه في ماله تصرفا لا يكون موليا عليه في نفسه تصرفا كالرجل، يكون استدلالا صحيحا بأحد الحكمين على الآخر، إذ المساواة قد تثبت بين التصرفين من حيث إن ثبوت الولاية في كل واحد منهما باعتبار حاجة المولى عليه وعجزه عن التصرف بنفسه، فلا يستقيم قلبهم إذا ذكرنا هذا على وجه الاستدلال، لأن جواز الاستدلال بكل واحد منهما على الآخر يدل على قوة المشابهة والمساواة وهو المقصود بالاستدلال، بخلاف ما علل به الشافعي، فإنه لا مساواة بين الجلد والرجم، أما من حيث الذات فالرجم عقوبة غليظة تأتي على النفس والجلد لا، ومن حيث الشرط الرجم يستدعي من الشرائط ما لا يستدعي عليه الجلد كالثيوبة. وكذلك لا مساواة بين ركن القراءة وبين الركوع، فإن الركوع فعل هو أصل في الركعة، والقراءة ذكر هو زائد، حتى إن العاجز عن الاذكار القادر على الافعال يؤدي الصلاة، والعاجز عن الافعال القادر على الاذكار لا يؤديها، ويسقط ركن القراءة بالاقتداء عندنا وعند خوف فوت الركعة بالاتفاق، ولا يسقط ركن الركوع. وكذلك لا مساواة بين الشفع الثاني والشفع الأول في القراءة، فإنه يسقط في الشفع الثاني شطر ما كان مشروعا في الشفع الأول وهو قراءة السورة، والوصف المشروع فيه في الشفع الأول وهو الجهر بالقراءة، ومع انعدام المساواة لا يمكن الاستدلال بأحدهما على الآخر، والقلب يبطل التعليل على وجه المقايسة. والنوع الثاني من القلب: هو جعل الظاهر باطنا بأن يجعل الوصف الذي علل به الخصم شاهدا عليه لصاحبه في إثبات ذلك الحكم بعد أن كان شاهدا له، وهذه معارضة فيها مناقضة، لأن المطلوب هو الحكم، فالوصف الذي يشهد بإثباته من وجه وينفيه من وجه آخر يكون متناقضا في نفسه، بمنزلة الشاهد الذي يشهد لاحد الخصمين على الآخر في حادثة، ثم للخصم الآخر عليه في عين تلك الحادثة فإنه يتناقض كلامه، بخلاف المعارضة بعلة أخرى فإنه لا يكون فيها معنى التناقض، بل للاشتباه يتعذر العمل إلى أن يتبين الرجحان لاحدهما على الآخر، فأما ما يشهد لك على خصمك وبخصمك عليك في حادثة واحدة في وقت واحد بأنه يتحقق فيه التعارض مع التناقض. وبيان ذلك فيما علل به الشافعي في صوم رمضان بمطلق النية إنه صوم فرض فلا يتأدى إلا بتعيين النية كصوم القضاء. فإنما نقلب عليه فنقول: إنه صوم فرض فبعد ما تعين مرة لا يشترط لادائه تعيين بنية أخرى كصوم القضاء. وعلل في سنة التكرار في المسح بالرأس فإنه ركن في الوضوء فيسن تثليثه كغسل الوجه واليدين. فإنا نقلب عليه فنقول: ركن في الوضوء فبعد إكماله بالزيادة على المفروض في محل الفريضة لا يسن تثليثه كالمغسولات، وإقامة الفرض هنا يحصل بمسح الربع وبالاستيعاب يحصل الاكمال بالزيادة على الفريضة في محل الفريضة، كما في المغسولات بالغسل ثلاثا يحصل الاكمال بالزيادة على القدر المفروض وهو الاستيعاب في محل المفروض. فإن قيل: هذا القلب إنما يتأدى بزيادة وصف، وبهذه الزيادة يتبدل الوصف ويصير شيئا آخر فيكون هذا معارضة لا قلبا. قلنا: نعم في هذا زيادة وصف ولكنها تفسير للحكم على وجه التقرير له لا على وجه التغيير، فإنا نبين بهذه الزيادة أن صوم رمضان لما تعين مشروعا في الزمان وغيره ليس بمشروع كان قياسه من القضاء ما بعد التعيين بالشروع فيه، والاستيعاب في المسح بالرأس لما لم يكن ركنا كان قياسه من المغسولات بعد حصول الاستيعاب ما إذا حصل الاكمال في المغسولات بالزيادة بعد الاستيعاب، فيكون تقريرا لذلك الوصف بهذا التفسير لا تغييرا. وتفسير العكس لغة وهو: رد الشئ على سننه وراءه، مأخود من عكس المرآة، فإن نورها يرد نور بصر الناظر فيما وراءه على سننه حتى يرى وجهه كأن له في المرآة وجها وعينا يبصر به. وكذلك عكس الماء نور الشمس، فإنه يرد نورها حتى يقع على جدار بمقابلة الماء كأن في الماء شمسا. ثم العكس في العلة على وجهين: أحدهما رد الحكم على سننه بما يكون قلبا لعلته حتى يثبت به ضد ما كان ثابتا بأصله، نحو قولنا في الشروع في صوم النفل إن ما يلتزم بالنذر يلتزم بالشروع كالحج، وعكسه إن ما لا يلتزم بالنذر لا يلتزم بالشروع كالوضوء، فيكون العكس على هذا المعنى ضد الطرد، وهذا لا يكون قادحا في العلة أصلا بل يصلح مرجحا لهذا النوع من العلة على العلة التي تطرد ولا تنعكس على ما نبينه في بابه. والنوع الآخر ما يكون عكسا يوجب الحكم لا على سنن حكم الأصل، بل على مخالفة حكم الأصل، وذلك نحو ما يعلل به الشافعي في أن الصوم عبادة لا يمضي في فاسدها فلا تصير لازمة بالشروع فيها كالوضوء، وعكسه الحج فهذا التعليل له، نظير التعليل الأول لنا، ونحن إذا قلنا بأن ما يلتزم بالنذر من العادة يلتزم بالشروع كالحج فهو يقول ينبغي أن يستوي حكم الشروع فيه بنية النفل وحكم الشروع فيه على ظن أنه عليه كالحج، فيكون في هذا العكس نوع كسر للعلة حيث تمكن الخصم به من إثبات حكم هو مخالف للحكم الأول ولكنه ليس بقوي، فإن الحكم الذي تعلقه مجمل غير مفسر وما علقنا به من الحكم مفسر فالمفسر أولى من المجمل، ثم هو تعلق به حكم التسوية والحكم المقصود شئ آخر يختلف فيه الفرع والأصل على سبيل التضاد، فإن في الأصل يستويان حتى يجب القضاء فيهما، وفي الفرع عنده يستويان حتى يسقط القضاء فيهما، وإنما يستقيم هذا التعليل إذا كان المقصود عين التسوية، ولانه في هذا العكس ينص على حكم آخر سوى ما ذكرناه في التعليل، فلا يكون إبطالا بطريق النظر وإنما يكون العكس دفعا لما فيه من الابطال والمناقضة، فإذا عرى عن ذلك لم يكن دفعا، ولانه علل بحكم مجمل لا يتصل بالمتنازع فيه إلا بكلام هو ابتداء وليس للسائل دلك، فظهر أن العكس سؤال ضعيف. فصل في المعارضة وقد بينا تفسير المعارشة فيما مضى، وهذا الفصل لبيان إقسامها، وتمييز الفاسد من الصحيح منها. فنقول: المعارضة نوعان: نوع في علة الأصل: ونوع في حكم الفرع. فالذي في حكم الفرع على خمسة أوجه: معارضة بالتنصيص على خلاف حكم العلة في ذلك المحل بعينه، ومعارضة بتغيير هو تفسير لذلك الحكم على وجه التقرير له: ومعارضة بتغيير فيه إخلال بموضع الخلاف: ومعارضة فيها نفى ما لم يثبته المعلل أو إثبات ما لم ينفه المعلل ولكنه يتصل بموضع التعليل، ومعارضة بإثبات حكم في غير المحل الذى أثبت المعلل الحكم فيه بعلته والذى في علة الأصل أنواع ثلاثة: معارضة بذكر علة في الأصل لا تتعدى إلى فرع: ومعارضة بذكر علة تتعدى إلى فرع الحكم فيه متفق عليه، ومعارضة بعلة تتعدى إل يفرع الحكم فيه مختلف فيه. وبيان الوجه الأول من الاوجه الخمسة في تكرار المسح بالرأس، فإن الخصم يقول: ركن في الوضوء فيسن تثليثه كالمغسول، ونحن نعارضه بقولنا: مسح في الطهارة فلا يسن تثليثه كالمسح بالخف، فهذه معارضة صحيحة لما فيها من التنصيص على خلاف حكم علته في ذلك المحل بعينه، وبيان الوجه الثاني في هذا الموضع أيضا، فإنا نقول: ركن في الوضوء فبعد صفة الاكمال بالزيادة على القدر المفروض في الفريضة لا يسن تثليثه كما في المغسولات. فهقه معارضة بتغيير هو تفسير للحكم في تقريره. وهذان وجهان في المعارضة المحوجة إلى الترجيح، لأن عند صحة المعارضة يصار إلى الترجيح. وبيان الوجه الثالث: فيما يعلل به في غير الاب والجد هل تثبت لهم ولاية التزويج على الصغيرة؟ فنقول إنها صغيرة فتثبت علهيا ولاية التزويج كالتى لها أب، وهم يعارضون ويقولون: هذه صغيرة فلا تثبت عليها ولاية التزويج للاخ كالتى لها أب، فتكون هذه معارضة بتغيير فيه إخلال بموضع النزاع، لأن موضع النزاع ثبوت ولاية التزويج على اليتيمة لاتعيين الولى الزوج لها، وهو في معارضته علل لنفى الولاية بشخص بعينه، ولكنه يقول: إن موضع النزاع إثبات الولاية للاقارب سوى الاب والجد على الصغيرة وأقربهم الاخ، فنحن بهذه المعارضة ننفي ولاية الاخ عنها، ثم ولاية من وراء الاخ منتفية عنها بالاخ، فمن هذا الوجه يظهر معنى الصحة في هذه العمارضة وإن لم يكن قويا. وبيان الوجه الرابع فيما ذكرنا في النوع الثاني من العكس، وذلك فيما يعلل به في مسألة الكافر يشترى عبدا مسلما إنه مال يملك الكافر بيعه فيملك شراءه كالعبد الكافر، فيقولون: وجب أن يستوى حكم شرائه ابتداء وحكم استدامة الملك فيه كالعبد الكافر الكافر. فنقول: في هذه المعارضة إثبات ما لم ينفه بالتعليل وهو التسوية بين أصل الشراء وبين استدامة الملك به فلا تكون متصلة بموضع النزاع إلا بعد البناء بإثبات التسوية بين الاستدامة وابتداء الشراء، وليس للسائل هذا البناء، فلم تكن هذه المعارضة صحيحة بطريق النظر وإن كان يظهر فيها معنى الصحة عند إثبات التسوية بينهما. وبيان الوجه الخامس فيما يقوله أبو حنيفة رضى الله عنه في المرأة إذا نعى إليها زوجها فاعتدت وتزوجت بروج آخر وولدت منه أولادا ثم جاء الزوج الأول حيا، فإن نسب الأولاد يثبت من الأول لاونه صاحب فراش صحيح عليها وثبوت النسب باعتبار الفراش. وهما يعارضان بأن الثاني صاحب فراش حاصر ومع صفة الفساد يثبت النسب من صاحب الفراش كما لو تزوج امرأة بغير شهود ودخل بها، فهذه معارضة بإثبات حكم في غير المحل الذي وقع التعليل، إذ الفاسد غير الصحيح والكلام في أن النسب بعدما صار مستحقا بثبوته لشخص هل هو يجوز أن يثبت لغيره باعتبار فراشه، فإن الأول بفراشه السابق يصير مستحقا نسب أولادها ما بقي فراشها، فيقع الكلام بعد هذا في الترجيح، أن أصل الفراش للثاني باعتبار كونه حاضرا وكونه صاحب الماء هل يترجح على الفراش الصحيح الذي للغائب حتى ينتسخ به حكم الاستحقاق الثابت بفراشه أم لا؟ وأبو حنيفة يقول: هذا لا يكون صالحا للترجيح، لأن الشئ لا ينسخه إلا ما هو مثله أو فوقه، والفاسد من الفراش مع هذه القرائن لا يكون مثلا للصحيح فلا ينسخ به حكم الاستحقاق الثابت بالصحيح، وبعدما صار النسب مستحقا لزيد لا يمكن إثباته لعمرو بوجه ما، والنكاح بغير شهود ليس من هذا المحل في شئ، فعرفنا أنه معارضة في غير محل الحكم. فأما وجوه المعارضة في علة الأصل فهي فاسدة كلها لما بينا أن ذكر علة أخرى في الأصل لا يبقى تعليله بما ذكره المعلل، لجواز أن يكون في الأصل وصفان فيتعدى الحكم بأحد الوصفين إلى الفروع دون الآخر، ثم إن كان الوصف الذي يذكره المعارض لا يتعدى إلى فرع فهو فاسد، لما بينا أن حكم التعليل التعدية فما لا يفيد حكمه أصلا يكون فاسدا من التعليل، فإن كان يتعدى إلى فرع فلا اتصال له بموضع النزاع إلا من حيث إنه تنعدم تلك العلة في هذا الموضع، وقد بينا أن عدم العلة لا يوجب عدم الحكم، فعرفنا أنه لا اتصال لتلك العلة بموضع النزاع في النفي ولا في الاثبات، وكذلك إن كانت تتعدى إلى فرع مختلف فيه فالمتعدية إلى فرع مجمع عليه تكون أقوى من المتعدية إلى فرع مختلف فيه، ولما تبين فساد تلك تبين فساد هذا بطريق الأولى. ومن الناس من يزعم أن هذه معارضة حسنة فيها معنى الممانعة، لأن بالاجماع علة الحكم أحد الوصفين لا كلاهما فإذا ظهرت صحة علة السائل بظهور حكمها وهو التعدية يتبين فساد العلة الاخرى. بيانه: أنا نقول في تعليل الحنطة إنه باع مكيلا بمكيل من جنسه متفاضلا، ثم تعدى الحكم بها إلى الحص وغيره. والخصم يعارض فيقول: باع مطعوما بمطعوم من جنسه متفاضلا لتعدي الحكم به إلى المطعومات التي هي غير مقدرة كالتفاح ونحوها، وقد ثبت باتفاق الخصمين أن علة الحكم أحدهما فإذا ثبت صحة ما ادعاه أحدهما علة انتفى الآخر بالاجماع، فكانت في هذه المعارضة ممانعة من هذا الوجه. ولكنا نقول: لا تنافي بين العلتين ذاتا لجواز أن يعلق الحكم بكل واحد منهما، فمن أنكر صحة ما ادعاه خصمه من العلة لا يفسد ذلك بمجرد تصحيح علته بل بذكر معنى مفسد في علة خصمه، كما أنه لا يثبت وجه صحة علته بإفساد علة خصمه بل بمعنى هو دليل الصحة في علته، فعرفنا أن هذه المعارضة فاسدة أيضا. ثم السبيل في كل كلام يذكره أهل الطرد على سبيل المفارقة إذا كان فقيها أن يذكره على وجه الممانعة فيكون ذلك فقها صحيحا من السائل على حد الانكار لا بد من قبوله منه. وبيان ذلك أن الخصم يقول في عتق الرهن إن هذا تصرف من الراهن مبطل لحق المرتهن عن المرهون، فلا ينفذ بغير رضاه كالبيع، والفرق لنا بين هذا وبين البيع أن ذاك يحتمل الفسخ بعد وقوعه، فيمكن القول بانعقاده على وجه يتمكن المرتهن من فسخه، والعتق لا يحتمل الفسخ بعد وقوعه، وهو بهذا التعليل يلغي أصل العتق ولا نسلم له هذا الحكم في الأصل، ثم من شرط صحة العلة أن لا يكون مغيرا حكم الأصل، فإن كان هو بالتعليل يغير حكم الأصل فيجعل الحكم فيه الالغاء دون الانعقاد على وجه التوقف منعناه من التعليل لانه ينعدم به شرط صحة التعليل، وإن أثبت به حكم الأصل وهو امتناع اللزوم بعد الانعقاد في محله لمراعاة حق المرتهن فهذا لا تصور له فيما لا يحتمل الفسخ بعد وقوعه، وكذلك إن رده على إعتاق المريض فإن ذلك عندنا ليس يلغو، فإن كان يعلل لالغاء العتق من الراهن فهذا تعليل يتغير به حكم الأصل وذلك غير صحيح عندنا فنمنعه بهذا الطريق، وعلى الوجه الذى هو حكم الأصل وهو تأخير تنفيذ الوصية عن قضاء الدين لا يمكنه إثباته بهذا التعليل في الفرع فكانت الممانعة صحيحة بهذا الطريق، وكذلك تعليل الخصم في قتل العمد بأنه قتل آدمى مضمون فيكون موجبا للمال كالخطأ، فإن الفرق بين الفرع والأصل لاهل الطرف أن في الخطأ لا يمكن إيجاب مثل التلفف من جنسه وهنا المثل من جنسه واجب، والأولى أن يقول في الأصل المال إنما يجب حلفا عما هو الأصل لفوات الأصل، وهو بهذا التعليل يوجب المال في الفرع أصلا فيكون في هذا التعليل يعرض بحكم الأصل بالتغيير، وشرط صحة التعليل أن لا يكوم متعرضا لحكم الأصل، فنمنعه من التعليل بهذا الطريق حتى يكون كلاما من السائلا على حد الانكار صحيحا. فصل في وجوه دفع المناقضة قد ذكرنا أن المناقضة لا ترد على العلل الؤثرة، لأن دليل الصحة فيها بالتأثير الثابت بالاجماع، والنقض لايرد على الاجماع وإنما يرد النقض على العلل الطردية، لأن دليل صحتها الاطراد وبالمناقضة ينعدم الاطراد، ثم تقع الحاجة إلى معرفة وجه دفع النقض صورة أو سؤالا معتبرا عن العلل. والحاصل فيه أن المجيب متى وفق بين ما ذكر من العلة وبين ما يورد نقضا عليها بتوفيق بين فإنه يندفع النقض عنه، وإذا لم يمكنه التوفيق بينهما يلزمه سؤال النقض، بمنزلة التناقض الذى يقع في مجلس القاضى من الدعوى والشهادة وبين شهادة الشهود، فإن ذلك ينتفى بتوفيق صحيح بين ثم وجوه الدفع أربعة، دفع بمعنى الوصف الذى جعله علة بما هو ثابت بصيغته ظاهرا، ودفع بمعنى الوصف الذى هو ثابت بدلالته وهى التى صارت بها حجة وهو التأصير الذى قلنا، ودفع بالحكم الذى هو المقصود، ودفع بالفرض المطلوب بالتعليل. فبيان الوجه الأول في تكرار المسح فإنا نقول: مسح فلا يسن تثليثه كالمسح بالخف، فيورد عليه الاستنجاء بالاحجار نقضا، فندفعه بمعنى الوصف الثابت بصيغته ظاهرا، وهو قولنا: مسح، فإن في الاستنجاء بالاحجار لا معتبر بالمسح بل المعتبر إزالة النجاسة حتى لو تصور خروج الحدث من غير أن يتلوث شئ منه من ظاهر البدن لا يجب المسح، والدليل عليه أن الاستطابة بالماء بعد إزالة عين النجاسة بالحجر فيه أفضل، ومعلوم أن في العضو الممسوح لا يكون الغسل بعد المسح أفضل، وكذلك إذا قلنا في الخارج من غير السبيلين إنه حدث لانه خارج نجس يورد عليه ما إذا لم يسل عن رأس الجرح: ودفع هذا النقض بمعنى الوصف ظاهرا وهو قولنا: خارج، فما لم يسل فهو طاهر لتقشير الجلد عنه وليس بخارج إنما الخارج ما يفارق مكانه وتحت كل موضع من الجلد بلة وفى كل عرق دم، فإذا تقشر الجلد عن موضع ظهر ما تحته فلا يكون خارجا كمن يكون في البيت إذا رفع البنيان الذى كان هو مستترا به يكون ظاهرا ولا يكون خارجا، وإنما يسمى خارجا من البيت إذا فارق مكانه، ولهذا لا يجب تطهير ذلك الموضع، لانه ما لم يصر خارجا من مكانه لا يعطى له حكم النجاسة. وبيان الوجه الثاني في هذين الفصلين أيضا، فإن تأثير قولنا مسح أنه طهارة حكمية غير معقولة المعنى وهى مبنية على التخفيف، إلا ترى أنه لا تأثير للمسح في إثبات صفة الطهارة بعد تنجس المحل حقيقة، وأنه يتأدى ببعض المحل للتخفيف، فلا يرد عليه الاستنجاء، لأن المطلوب هناك إزالة عين النجاسة ولهذا لا تنم باستعمال الحجر في بعض المحل دون العبض، فباعتبار الاستيعاب فيه والقصد إلى تطهير المحل بإزالة حقيقة النجاسة عنه يشبه الاستنجاء الغسل في الاعضاء المغسولة دون المسح له وكذلك قولنا الخارج النجس كان حجة بالتأثير لها وهو وجوب التطهير في ذلك الموضع، فإن بالاجماع غسل ذلك الموضع للتطهير واجب ووجوب التطهير في البدن باعتبار ما يكون منه لا يحتمل التجزى، فيندفع ما إذا لم تسل النجاسة لانه لم يجب هناك تطهير ذلك الموضع بالغسل. فعرفنا أنه انعدم الحكم لانعدام العلة، وهذا يكون مرجحا للعلة فكيف يكون نقضا؟ ! وسنقرر هذا في بيان ترجيح العلة التي تنعكس على العلة التي لا تنعكس. وبيان الوجه الثالث فيما يعلل به في النذر بصوم يوم النحر أنه يوم فيصح إضافة النذر إليه كسائر الايام، فيورد عليه يوم الحيض نقضا، ووجه الدفع بالحكم الذي هو المقصود بالتعليل وهو صحة إضافة النذر بالصوم إليه وذلك اليوم يصح إضافة النذر بالصوم إليه، فإنها لو قالت: لله علي أن أصوم غدا، يصح نذرها وإن حاضت من الغد، وإنما فسد نذرها بالاضافة إلى الحيض لا إلى اليوم. وكذلك يعلل في التكفير بالمكاتب، فنقول: عقد الكتابة يحتمل الفسخ فلا تخرج الرقبة من جواز التكفير بعتقها كالبيع والاجارة، فيورد عليه نقضا ما إذا أدى بعض بدل الكتابة، وطريق الدفع بالحكم وهو أن هذا العقد لا يخرج الرقبة من أن تكون محلا للتكفير بها، وهنا العقد لا يخرج الرقبة من ذلك، ولكن معنى المعاوضة هو الذي يمنع صحة التكفير بذلك التحرير، وبعض أهل النظر يعبرون عن هذا النوع من الدفع بأن التعليل للجملة فلا يرد عليه الافراد نقضا، وفقهه ما ذكرنا. وبيان الوجه الرابع من الدفع فيما عللنا به الخارج من غير السبيلين، فإنه خارج نجس فيكون حدثا كالخارج من السبيلين، فيورد عليه دم الاستحاضة مع بقاء الوقت نقضا. وللدفع فيه وجهان: أحدهما أن ذلك حدث عندنا ولكن يتأخر حكمه إلى ما بعد خروج الوقت ولهذا تلزمها الطهارة بعد خروج الوقت وإن لم يكن خروج الوقت حدثا، والحكم تارة يتصل بالسبب وتارة يتأخر عنه، فهذا الدفع من جملة الوجه الثالث ببيان أنه حدث بالجملة والثاني أن المقصود بهذا التعليل التسوية بين الفرع والأصل وقد سوينا، فإن الخارج المعتاد من السبيل إذا كان دائما يكون حدثا موجبا للطهارة بعد خروج الوقت لا في الوقت، فكذلك الذي هو غير المعتاد والذي هو خارج من غير سبيل. وكذا إذا عللنا في أن السنة في التأمين الاخفاء بقولنا إنه ذكر لا يدخل عليه الاذان ولا التكبيرات التي يجهر بها الامام، لأن الغرض التسوية بين التأمين وبين سائر الاذكار في أن الأصل هو الاخفاء وذلك ثابت، إلا إن جهر الامام بالتكبيرات لا لانها ذكر بل لاعلام من خلفه بالانتقال من ركن إلى ركن، والجهر بالاذان والاقامة كذلك أيضا، ولهذا لا يجهر المقتدي بالتكبيرات ولا يجهر المنفرد بالتكبيرات ولا بالاذان والاقامة، فيدفع النقض ببيان الغرض المطلوب بالتعليل وهو التسوية بين هذا الذكر وبين سائر أذكار الصلاة. وبعض أهل النظر يعبرون عن هذا فيقولون: مقصودنا بهذا التعليل التسوية بين الفرع والأصل وقد سوينا بينهما في موضع النقض كما سوينا في موضع التعليل، فيتبين به وجه التوفيق بطريق يندفع به التناقض، والله أعلم.
قال رضي الله عنه: الكلام في هذا الباب في فصول: أحدها في معنى الترجيح لغة وشريعة، والثاني في بيان ما يقع به الترجيح، والثالث في بيان المخلص من تعارض يقع في الترجيح، والرابع في بيان ما هو فاسد من وجوه الترجيح. فأما الأول فنقول: تفسير الترجيح لغة إظهار فضل في أحد جانبي المعادلة وصفا لا أصلا، فيكون عبارة عن مماثلة يتحقق بها التعارض، ثم يظهر في أحد الجانبين زيادة على وجه لا تقوم تلك الزيادة بنفسها فيما تحصل به المعارضة أو تثبت به المماثلة بين الشيئين، ومنه الرجحان في الوزن فإنه عبارة عن زيادة بعد ثبوت المعادلة بين كفتي الميزان وتلك الزيادة على وجه لا تقوم منها المماثلة ابتداء ولا يدخل تحت الوزن منفردا عن المزيد عليه مقصودا بنفسه في العادة نحو الحبة في العشرة، وهذا لأن ضد الترجيح التطفيف، وإنما يكون التطفيف بنقصان يظهر في الوزن أو الكيل بعد وجود المعارضة بالطريق الذي تثبت به المماثلة على وجه لا تنعدم به المعارضة، فكذلك الرجحان يكون بزيادة وصف على وجه لا تقوم به المماثلة ولا ينعدم بظهوره أصل المعارضة، ولهذا لا تسمى زيادة درهم على العشرة في أحد الحانبين رجحانا، لأن المماثلة تقوم به أصلا، وتسمى زيادة الحبة ونحوها رجحانا لأن المماثلة لا تقوم بها عادة. وكذل في لا شريعة هو عبارة عن زيادة تكون وصفا لا أصلا، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال للوازن: " زن وأرجح فإنا معشر الأنبياء هكذا زن " ولهذاد لا يثبت حكم الهبة في مقدار الرجحان، لانه زيادة تقوم وصفا لا مقصودا بسببه، بخلاف زيادة الدرهم على العشرة، فإنه يثبت فيه حكم الهبة حتى لو لم يكن متميزا كان الحكم فيه كالحكم في هبة المشاع لانه مما تقوم به المماثلة فإنه يكون مقصودا بالوزن فلا بد من أن يجعل مقصودا في التمليك بسببه وليس ذلك إلا الهبة، فإن قضاء العشرة يكون بمثلها عشرة، فيتبين أن بالرجحان لا ينعدم أصل المماثلة لانه زيادة وصف بمنزلة زيادة وصف الجودة - وما يكون مقصودا بالوزن تنعدم به المماثلة ولا يكون ذلك من الجرحان في شئ وعلى هذا قلنا في العلل في الاحكام: إن ما يصلح علة للحكم ابتداء لا يصلح للترجيح به وإنما يكون الترجيح بمالا يصلح علة موجبة للحكم. وبيان ذلك في الشهادات، فإن أحد المدعيين لو أقام شاهدين وأقام الاخر أربعة من الشهود لم يترجح الذى شهد له أربعة لأن زيادة الشهادين في حقه علة تامة للحكم فلا يصلح مرجحا للحجة في جانبه، وكذلك زيادة شاهد واحد لاحد المدعيين، لانه من جنس ما تقوم به الحجة إصلا فلا يقع الترجيح به إصلا وإنما يقع الترجيح بما يقوى ركن الحجة أو يقوى معنى الصدق في الشهادگة وذلك فى أن تتعارض شهادة المستور مع شهادة العدل بأن أقام أحد المدعيين مستورين والاخر عدلين، فإنه يترجح الذى شهد به العدلان بظهور ما يؤكد معنى الصدق في شهادة شهوده. وكذلك في النسب أو النكاح لو ترجح حجة أحد الخصمين باتصال القضاء بها، لأن ذلك مما يؤكد ركن الحجة، فإن بقضاء القاضى يتم معنى الحجة في الشهادة ويتعين جانب الصدق - وعل يهذا قلنا في العلتين إذا تعارضتا لاتترجح إحداهما بانضمام علة إخرى إليها، وإنما تترجح بقوة الاثر فيها، فبه يتأكد ما هو الركن في صحة العلة. وكذلك الخبران إذا تعارضا لا يترجح أحدهما على الاخر بل بما به يتأكد معنى الحجة فيه وهو الاتصال برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يرجح المشهور بكثرة رواته على الشاذ لظهور زيادة القوة فيه من حيث الاتصال برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويترجح بفقه الراوى وحسن ضبطه وإتقانه، لانه يتقوى به معنى الاتصال برسول الله على الوجه الذى وصل إلينا بالنقل. وكذلك الايتان إذا وقعت المعارضة بينهما لاتترجح إحداهما بآية أخرى بل تترجح بقوة في معنى الحجة وهو أنه نص مفسر والاخر مؤول وكذلك لا يترجح أحد الخبرين بالقياس. فعرفنا أن ما يقع به الترجيح هو مالا يصلح علة للحكم ابتداء، بل ما يكون مقويا لما به صارت العلة موجبة للحكم. وعلى هذا قلنا لو أن رجلا جرح رجلا جراحة وجرحه آخر عشر جراحات فمات من ذلك فإن الدية عليهما نصفان. لأن كل جراحة علة تامة ولا يترجح أحدهما بزيادة عدد في العلة في جانبه حته يصير القتل مضافا إليه دون صاحبه بل يصير مضافا إلى فعلهما على وجوه التساوى. ولو قطع أحدهما يده ثم جز الاخر رقبته فالقاتل هو الذى جز رقبته دون الاخر لزيادة قوة فيما هو علة القتل من فعله وهو أنه لا يتوهم بقاؤه حيا بعد فعله بخلاف فعل الاخر. وعلى هذا الأصل رجحنا سبب استحقاق الشفعة للشريك في نفس المبيع على السبب في حق الشريك في حقوق المبيع، ثم رجحنا الشريك في حقوق المبيع على الجار لزيادة وكادة في الاتصال الذى ثبت بالجوار، فإن اتصال الملكين في حق الشريك في نفس المبيع في كل جزء في حق الشريك في حقوق المبيع الاتصال فيما هو بيع من المبيع، وفى حق الجار لا اتصال من حيث الاختلاط فيما هو مقصود ولا فيما هو تبع وإنما الاتصال من حيث المجاورة بين الملكين مع تميز أحدهما من الاخر، ثم من كان جواره من ثلاث جوانب لا يترجح عل يمن كان جواره من جانب واحد لأن الموجود في جانبه زيادة العلة من حيث العدد فلا يثبت به الترجيح. وعلى هذا قلنا: صاحب القليل يساوى صاحب الكثير في استحقاق الشقص المبيع بالشفعة، لأن الشركة بكل جزء علة تامة لاستحقاق جميع الشقص المبيع بالشفعة، فإنما وجد في جانب صاحب الكثير كثرة العلة وبه لا يقع الترجيح. وهكذا يقول الشافعي في اعتبار أصل الترجيح، فإنه لا يجرح صاحب الكثير هنا حتى يكون لصاحب القليل حق المزاحمة معه في الاخذ بالشفعة، إلا أنه يجعل الشفعة من جملة مرافق الملك فتكون مقسومة بين الشفعاء على قدر الملك، كالولد والربح والثمار من الاشجار المشتركة، أو يجعل هذا بمنزلة ملك المبيع فيجعله مقسوما على مقدار ما يلتزم كل واحد من المشترين من بدله وهو الثمن، حتى إذا باع عبدا بثلاثة آلاف درهم من رجلين على أن يكون على أحدهما ألف درهم وعلى الآخر بعينه ألفا درهم فإن الملك بينهما في المبيع يكون أثلاثا على قدر الملك. وهذا غلط منه لانه جعل الحكم مقسوما على قدر العلة، أو بنى العلة على الحكم، وذلك غير مستقيم. وعلى هذا اتفقت الصحابة في امرأة ماتت عن ابني عم أحدهما زوجها، فإن للزوج النصف والباقي بنيهما العصوبة ولا يترجح الزوج بسبب الزوجية لأن ذلك علة أخرى لاستحقاق الميراث سوى ما يستحق به العصوبة، فلا تترجح علته بعلة أخرى ولكن يعتبر كل واحد من السببين في حق من اجتمع في حقه السببان بمنزلة ما لو وجد كل واحد منهما في شخص آخر. وكذلك قال أكثر الصحابة في ابني عم أحدهما أخ لام إنه لا يترجح بالاخوة لام على الآخر ولكن له السدس بالفرضية، والباقي بينهما نصفان بالعصوبة. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: يترجح ابن العم الذي هو أخ لام لأن الكل قرابة فتقوى إحدى الجهتين بالجهة الاخرى بمنزلة أخوين أحدهما لاب وأم والآخر لاب. وأخذنا بقول أكثر الصحابة، لأن العصوبة المستحقة بكونه ابن عم مخالف للمستحق بالاخوة، ولهذا يكون استحقاق ابن العم العصوبة بعد استحقاق الاخ بدرجات، والترجيح بقرابة الام في استحقاق العصوبة إنما يكون عند اتحاد جهة العصوبة والاستواء في المنزلة، كما في حق الاخوان فحينئذ يقع الترجيح بقرابة الام لانه لا يستحق بها العصوبة ابتداء فيجوز أن تتقوى بها علة العصوبة في جانب الاخ لاب وأم، إذ الترجيح يكون بعد المعارضة والمساواة، فأما قرابة الاخوة فهي ليست من جنس قرابة ابن العم حتى تتقوى بها العصوبة الثابتة لابن العم الذي هو أخ لام بل يكون هذا السبب بمنزلة الزوجية فتعتبر حال اجتماعهما في شخص واحد بحال انفراد كل واحد من السببين في شخص آخر. وكثير من المسائل تخرج على ما تركنا من الأصل في هذا الفصل إذا تأملت. فصل وما ينتهى إليه ما يقع به الترجيح في الحاصل أربعة: أحدها قوة الاثر، والثاني قوة الثبات على الحكم المشهود به، والثالث كثرة الاصول، والرابع عدم الحكم عند عدم العلة. أما الوجه الأول فلان المعنى الذي به صار الوصف حجة الاثر، فمهما كان الاثر أقوى كان الاحتجاج به أولى لصفة الوكادة فيما به صار حجة. فذلك نحو دليل الاستحسان مع القياس، ونحو الاخبار إذا تعارضت، فإن الخبر لما كان حجة لمعنى الاتصال برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يزيد معنى الاتصال وكادة من الاشتهار، وفقه الراوي وحسن ضبطه واتقانه كان الاحتجاج به أولى. فإن قيل: أليس أن الشهادات متى تعارضت لم يترجح بعضها بقوة عدالة بعض الشاهد، وهي إنما صارت حجة باعتبار العدالة ثم بعد ظهور عادلة الفريقين لا يقع الترجيح بزيادة معنى العدالة؟ قلنا: العدالة ليست بذي أنواع متفاوتة حتى يظهر لبعضها قوة عند المقابلة بالبعض، وهي عبارة عن التقوى والانزجار عن ارتكاب ما يعتقد الحرمة فيه، وذلك مما لا يمكن الوقوف فيه على حد أن يرجح البعض بزيادة قوة عند الرجوع إلى حده، بخلاف تأثير العلة فإن قوة الاثر عند المقابلة تظهر على وجه لا يمكن إنكاره. وبيان هذا في مسائل. منها أن الشافعي علل في طول الحرة أنه يمنع نكاح الامة لأن في هذا العقد إرقاق جزء منه مع استغنائه عنه، فلا يجوز كما لو كان تحته حرة، وهذا الوصف بين الاثر، فإن الارقاق نظير القتل من وجه، ألا نرى أن الامام في الاسارى يتخير بين القتل والاسترقاق؟ فكما يحرم عليه قتل ولده شرعا يحرم عليه إرقاقه مع استغنائه عنه. وقلنا: هذا النكاح يجوز لعبد المسلم، فإن المولى إذا دفع إليه مالا وأذن له في أن ينكح به ما شاء من حرة أو أمة جاز له أن ينكح الامة، فلما كان طول الحرة لا يمنع نكاح الامة للعبد المسلم لا يمنع للحر لوجود الحرة في الدنيا. وتأثير ما قلنا أن تأثير الرق في تنصيف الحل الذى يترتب عليه عقد النكاح وحقيقة التنصيف في أن يكون حكم العبد في النصف الباقي له وحكم الحر في جميع ذلك سواء فما يكون شرطا في حق الحر يكون شرطا في حق العبد كالشهود وخلو المرأة عن العدة، وما لا يكون شرطا في حق العبد لا يكون شرطا في حق الحر كالخطبة وتسمية المهر لا يكون في حق العبد. ثم تظهر قوة التأثير لما قلنا في الرجوع إلى الاصول، فإن الرق من أوصاف النقصان والحرية من أوصاف الكمال، وهذا لاحل كرامة يختص به البشر فكيف يجوز القول بأنه يتسع الحل بسبب الرق حتى يحل للعبد ما لا يحل للحر. وبزداد قوة بالنظر في أحوال البشر فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل أمته بزيادة اتساع في حله حتى جاز له نكاح تسع نسوة أو إلى ما لا يتناهى على حسب ما اختفوا فيه. فتبين بهذا تحقيق معنى الكرامة في زيادة الحل وظهر أنه لا يجوم القول بزيادة حل العبد على حل الحر. ويظهر ضعف أثر علته في الرجوع إلى الاصول، فإن إرقاق الماء دون التضييع لا محالة، ويحل له أن يضيعماءه بالعزل عن الحرة بإذنها فلان يجوز تعريض ما به الرق بنكاح الامة كان أولى. ويزداد ضعفا بالرجوع إلى أحوال البشر، فان من ملك نفسه على وجه يأمن أن يقع في الحرام يجوز له نكاح الامة ولا يحل له قتل ولده إذا أمن جانبه بحال من الاحوال. وعلى هذا قلنا: للحر أن يتزوج أمة على أمة، لأن ذلك جائز للعبد فيجوز للحر من الوجه الذى قررنا، ولا يجوز للعبد أن ينكح أمة على حرة كما لا يجوز ذلك للحر، لأن العبد في النصف الباقي له مثل الحر في الحكم. وعلل في حرمة نكاح الامة الكتابية على المسلم بأنها أمة كافرة فلا يجوز نكاحها للمسلم كالمجوسة. وهذا بين الاثر من وجهين: أحدهما أن الرق مؤثر في حرمة النكاح حتى لا يجوز نكاح الامة على الحرة. والكفر كذلك، فإذا اجتمع الوصفان في شخص تغلظ معنى الحرمة فيها فيلتحق بالكفر المتغلظ بعدم الكتاب في المنع من النكاح. والثانى أن جواز نكاح الامة بطريق الضرورة عند غشية العنت وهذه الضرورة ترتفع بحل الامة المسلمة فلا حاجة إلى حل الامة الكتابية للمسلم النكاح، وقلنا نحن: اليهودية والنصرانية دين يجوز للمسلم نكاح الحرة من أهلها فيجوز نكاح الحرة من أهلها فيجوز نكاح الامة كدين الاسلام. وتأثيره فيما بينا أن الرق يؤثر في التنصيف من الجانبين فيما يبتنى على الحل. إلا أن ما يكون متعددا فالتنصيف يظهر في العدد كالطلاق والعمدة والقسم، والنكاح الذى يبتنى على الحل في جانب الرجل متعدد، فالتنصيف يظهر في العدد، وفى جانب المرأة غير متعدد فإنها لا تحل لرجلين بحال، ولكن من حيث الاحوال متعدد حال تقدم نكاحها على نكاح الحرة وحال التأخر وحال المقارنة، فيظهر التنصيف باعتبار الاحوال، وفى الحال الواحد يجتمع معنى الحل ومعنى الحرمة فيترجح معنى الحرمة بمنزلة الطلاق والعدة فإن طلاق الامة تطليقتان وعدتها حيضتان، وفى الحقيقة هما حالتان: حالة الانفراد عن الحرة بالسبق وحالة الانضمام إلى الحرة بالمقارنة أو التأخر، فتكون محللة في إحدى الحالتين دون الاخرى ثم تظهر قوة هذا الاثر بالتأمل في الاصول، فإن الحل تارة يثبت بالنكاح وتارة بملك اليمين، ووجدنا أن الامة الكتابية كالامة المسلمة في الحل يملك اليمين فكذلك في الحل بانكاح، ولسنا نسلسم أنه يتغلظ كفر الكتابية برقها في حكم النكاح، فإنه لو كان كذلك لم يحل ببملك اليمين كالمجوسية. ثم النقصان أو الخبث الثابت بكل واحد منهما من وجه سوى الوجه الاخر، و - نما يظهر التغليظ عند إمكان إثبات الاتحاد بينهما ومع اختلاف الجهة لا يتأتى ذلم، وقد بينا أن انضمام علة إلى علة ل يوجب قوة في الحكم ولا نسلم أن إباحة نكاح الامة بطريق الضرورة لما بينا أن الرقيق في النصف الباقي مساو للحر، فكما أن نكاح الحرة يكون أصلا مشروعا لا بطريق الضرورة فكذلك نكاح الامة في النصف الباقي لها، ونعتبرها بالعبد بل إولى لأن معنى عدم الضرورة في حق الامة أضهر منه في حق العبد فإنها تستمع بمولاها بملك اليمين. والعبد لا طريق له سوى؟؟؟؟ ثم لم بجعل بقاء ما بقى في حق العبد بعد التنصيف بالرق ثابتا بطريق الضرورة ففي حق الامة أولى. وعلل الشافعي رحمه الله فيما إذا أسلم أحد الزوجين في دار الاسلام أو في دار الحرب، فإن كان قبل الدخول يتعجل الفرقة، وإن كان بعد الدخول يتوقف على انقضاء العدة، فإن الحادث اختلاف الدين بين الزوجين فيوجب الفرقة عند عدم العدة كالردة، وسوى بينهما في الجواب فقال: إذا ارتد أحدهما قبل الدخول تتعجل الفرقة في الحال، وبعد الدخول يتوقف على انقضاء ثلاث حيض. وبيان أثر هذا الوصف في ابتداء النكاح، فإن مع اختلاف الدين عند إسلام المرأة وكفر الزوج لا ينعقد النكاح ابتداء، كما أن عند ردة أحدهما لا ينعقد النكاح ابتداء، فكذلك في حالة البقاء تستوي ردة أحدهما وإسلام أحدهما إذا كان على وجه يمنع ابتداء النكاح، وفي الردة إنما يثبت هذا الحكم للاختلاف في الدين لا لمنافاة الردة النكاح فإنهما لو ارتدا معا - نعوذ بالله - لا تقع الفرقة بينهما، وإنما انعدم الاختلاف في الدين هنا، فأما الردة فمتحققة، ومع تحقق المنافي لا يتصور بقاء النكاح كالمحرمية بالرضاع والمصاهرة. وقلنا نحن: الاسلام سبب لعصمة الملك، فلا يجوز أن يستحق به زوال الملك بحال، وكفر الذي أصر منهما على الكفر كان موجودا وصح معه النكاح ابتداء وبقاء، فلا يجوز أن يكون سببا للفرقة أيضا. ولا يقال هذا الكفر إنما لم يكن سببا للفرقة في حال كفر الآخر لا بعد إسلامه، كما لا يكون سببا للمنع من ابتداء النكاح في حال كفر الآخر لا بعد إسلامه، لأن اعتبار البقاء بالابتداء في أصول الشرع ضعيف جدا، فإن قيام العدة وعدم الشهود يمنع ابتداء النكاح، ولا يمنع البقاء والاستغناء عن نكاح الامة بنكاح الحرة يمنع نكاحها ابتداء ولا يمنع البقاء، إذا تزوج الحرة بعد الامة، فإن ظهر أن واحدا من هذين السببين لا يصلح سببا لاستحقاق الفرقة ولا بد من دفع ضرر الظلم المتعلق عنها، لأن ما هو المقصود بالنكاح وهو الاستمتاع فائت شرعا، جعلنا السبب تفريق القاضي بعد عرض الاسلام على الذي يأبى منهما، وهو قوي الاثر بالرجوع إلى الاصول، فإن التفريق باللعان وبسبب الجب والعنة وبسبب الايلاء يكون ثابتا باعتبار هذا المعنى محالا به على من كان فوات الامساك بالمعروف من جهته، فهنا أيضا يحال به على من كان فوات الامساك بالمعروف بالاصرار على الكفر من جهته، ولا يثبت إلا بقضاء القاضي. فأما الردة فهي غير موضوعة للفرقة بدليل صحتها حيث لا نكاح وبه فارق الطلاق، وإذا لم يكن موضوعا للفرقة عرفنا أن حصول الفرقة بها لكونها منافية للنكاح حكما وذلك وصف مؤثر، فإن النكاح يبتنى على الحل الذي هو كرامة، وبعد الردة لا يبقى الحل، لأن الردة سبب لاسقاط ما هو كرامة، ولازالة الولاية والمالكية الثابتة بطريق الكرامة، فجعلها منافية للنكاح حكما يكون قوي الاثر من هذا الوجه، ومع وجود المنافي لا يبقى النكاح سواء دخل بها أو لم يدخل. فأما إذا ارتدا معا فحكم بقاء النكاح بينهما معلوم بإجماع الصحابة بخلاف القياس، وقد بينا أن المعدول به عن القياس بالنص أو بالاجماع لا يشتغل فيه بالتعليل ولا بإثبات الحكم فيه بعلة، وقد بينا فساد اعتبار حالة البقاء بحالة الابتداء، فلا يجوز أن يجعل امتناع صحة النكاح بينهما ابتداء بعد الردة علة للمنع من بقاء النكاح، وهذا لأن البقاء لا يستدعي دليلا مبقيا، وإنما يستدعي الفائدة في الابقاء، وبعد ردتهما نعوذ بالله يتوهم منهما الرجوع إلى الاسلام وبه تظهر فائدة البقاء. فأما الثبوت ابتداء يستدعي الحل في المحل وذلك منعدم بعد الردة، وعند ردة أحدهما لا يظهر في الابقاء فائدة مع ما هما عليه من الاختلاف. وعلى هذا علل الشافعي رحمه الله في عدد الطلاق فإنه معتبر بحال الزوج لانه هو المالك للطلاق وعدد الملك معتبر بحال المالك كعدد النكاح، وهذا بين الاثر، لأن المالكية عبارة عن القدرة والتمكن من التصرف، فإذا كان الزوج هو المتمكن من التصرف في الطلاق بالايقاع عرفنا أنه هو المالك له، وإنما يتم الملك باعتبار كمال حال المالك بالحرية كما أن ملك التصرف بالاعتاق وغيره إنما يتم بكمال حال المالك بالحرية. وقلنا نحن: الطلاق تصرف بملك بالنكاح فيتقدر بقدر ملك النكاح وذلك يختلف باختلاف حال المرأة في الرق والحرية، لأن الملك إنما يثبت في المحل باعتبار صفة الحل، والحل الذي يبتنى عليه النكاح في حق الامة على النصف منه في حق الحرة فبقدر ذلك يثبت الملك، ثم بقدر الملك يتمكن المالك من الابطال، كما أن بقدر ملك اليمين يتمكن من إبطاله بالعتق، حتى إنه إذا كان له عبد واحد يملك إعتاقا واحدا، فإن كان له عبدان يملك عتقين. ثم ظهر قوة الاثر لما قلنا بالرجوع إلى الأصل وهو أن ما يبتنى على ملك النكاح ويختص به فإنه يختلف باختلاف حالها، وذلك نحو القسم في حال قيام النكاح والعدة وحق المراجعة باعتبارها بعد الطلاق، فعرفنا أنه يتقدر ما يبتنى على ملك النكاح بقدر الملك الثابت بحسب ما يسع المحل له. وعلى هذا علل في تكرار المسح بأنه ركن في الوضوء فيسن فيه التكرار كالغسل. وقلنا نحن: إنه مسح فلا يسن فيه التكرار كالمسح بالخف، ثم كان تأثير المسح في إسقاط التكرار أقوى من تأثير الركنية في سنة التكرار فيه، فإن التكرار مشروع في المضمضة والاستنشاق وليسا بركن، وتأثير المسح في التخفيف فإن الاكتفاء بالمسح فيه مع إمكان الغسل ما كان إلا للتخفيف، وعند الرجوع إلى الاصول يظهر معنى التخفيف بترك التكرار بعد الاكمال مع ما فيه من دفع الضرر الذي يلحقه بإفساد عمامته بكثرة ما يصيب رأسه من البلة. وعلى هذا علل في اشتراط تعيين النية في الصوم بأنه صوم فرض، وهو بين الاثر، فإن اشتراط النية لمعنى التقرب وصفة الفرضية قربة كالأصل. وقلنا نحن: صوم عين، وتأثيره أن اشتراط النية، في العبادة في الأصل للتمييز بين أنواعها بتعين نوع منها، وهذا متعين شرعا فلا معنى لاشتراط النية للتعيين، ومعنى القربة يتم بوجود أصل النية، فباعتبار قوة الاثر من هذا الوجه يظهر الترجيح. وما يخرج على هذا من المسائل لا يحصى وفيما ذكرنا كفاية لمن يحسن التأمل في نظائرها. وأما الوجه الثاني وهو الترجيح بقوة ثبات الحكم المشهود به فلان أصل ذلك إنما يكون عن نص أو إجماع، وما يكون ثبوته بالنص أو الاجماع يكون ثابتا متأكدا، فما يظهر فيه زيادة القوة في الثبات عند العرض على الاصول يكون راجحا باعتبار ما به صار حجة. وبيان ذلك في مسألة مسح الرأس أيضا، فإن الوصف الذي عللنا به له زيادة قوة الثبات على الحكم المشهود به، ألا ترى أن سائر أنواع المسح كالتيمم والمسح على الخف والمسح على الجورب عند من يجيزه والمسح على الجبائر يظهر الخفة فيها بترك اعتبار التكرار، وليس للوصف الذي علل به قوة الثبات بهذه الصفة، فإن في الصلاة أركانا كالقيام والقراءة والركوع والسجود، ثم تمامها يكون بالاكمال لا بالتكرار، فعرفنا أن الركنية ليس بوصف قوي ثابت في إثبات سنة التكرار به، وكذلك في الصوم، فإن صفة العينية قوي ثابت في إسقاط اشتراط نية التعيين فيه حتى يتعدى إلى سائر العبادات، كالزكاة إذا تصدق بالنصاب على الفقير وهو لا ينوي الزكاة، والحج إذا أطلق النية ولم يعين حجة الاسلام، والايمان بالله تعالى. ويتعدى إلى غير العبادات نحو رد الودائع والغصوب ورد المبيع على البائع لفساد البيع. وصفة الفرضية ليس بقوي ثابت في اشتراط نية التعيين بعدما صار متعينا في الصوم لا في غير الصوم. وكذلك ما علل به علماؤنا في أن المنافع لا تضمن بالاتلاف لأن ضمان المتلفات مقدر بالمثل بالنص، وباعتبار ما هو المقصود وهو الجبران، وبين العين والمنفعة تفاوت في المالية من الوجه الذي ذكرنا، فلا يجوز أن يوجب على المتلف فوق ما أتلف في صفة المالية، كما لا يوجب الجيد بإتلاف الردئ. وقال الشافعي رحمه الله: المنافع تضمن بالعقد الجائز والفاسد بالدراهم فتضمن بالاتلاف كالاعيان، ثم تأثيره تحقق الحاجة إلى التحرر عن إهدار حق المتلف عليه، فإنه نظير تحقق الحاجة إلى ملك المنفعة بالعوض بالعقد. ثم هو يزعم أن علته أقوى في ثبات الحكم المشهود به عليه من وجهين: أحدهما أنه إذا لم يكن بد من الاضرار بأحدهما فمراعاة جانب المظلوم وإلحاق الخسران بالظالم بإيجاب الزيادة عليه أولى من إهدار حق المظلوم. والثاني أن في إيجاب الضمان إهدار حق الظالم فيما هو وصف محض وهو صفة البقاء، وفي الأصل هما شيئان وهو كونهما منتفعا به، غير أن في طرف الظالم فضل صفة وهو البقاء، فبهدر صيانة الأصل (هدر) حق المظلوم. وإذا قلنا: لا يجب الضمان كان فيه إهدار حق المتلف عليه في أصل المالية، ولا شك أن الوصف دون الأصل. ونحن نقول: قوة ثبات الحكم فيما اعتبرناه، لأن في إيجاب الزيادة معنى الجور، ولا يجوز نسبة ذلك إلى الشرع بغير واسطة من العباد بحال من الاحوال، وإذا لم نوجب الضمان فإنما لا نوجب لعجزنا عن إيجاب المثل في موضع ثبت اشتراط المماثلة فيه بالنص، وبه فارق ضمان العقد، فإنه غير مبني على المماثلة بأصل الوضع، وكيف يكون مبنيا على ذلك والمبتغي به الربح والامتناع من الاقدام عند تحقق العجز أصل مشروع لنا؟ والثاني أن في إيجاب الزيادة إهدار حق المتلف في هذه الزيادة في الدنيا والآخرة. وإذا قلنا: لا يجب الضمان لا يهدر حق المتلف عليه أصلا بل يتأخر إلى الآخرة وضرر التأخير دون ضرر الاهدار. ولا يدخل على هذا إتلاف ما لا مثل له من جنسه، لأن الواجب هو مثل المتلف في المالية شرعا إلا أنه آل الامر إلى الاستيفاء وذلك يبتنى على الوسع. قلنا يتقدر بقدر الوسع ويسقط اعتبار أدنى تفاوت في القيمة، لانه لا يستطاع التحرز عن ذلك ولكن لا يتحقق في هذا معنى نسبة الجور إلى الشرع، فالواجب شرعا هو المثل لا غير، وما اعتبر من ترجيح جانب المظلوم فهو ضعيف جدا، لأن الظالم لا يظلم ولكن ينتصف منه مع قيام حقه في ملكه، فلو لم نوجب الضمان لسقط حق المظلوم لا بفعل مضاف إلينا، وعند ايجاب الضمان يسقط حق الظالم في الوصف بمعنى مضاف الينا وهو أنا نلزمه أداء ذلك بطريق الحكم به عليه، ومراعاة الوصف في الوجوب كمراعاة الأصل، ألا ترى أن في القصاص الذي يبتنى على المساواة التفاوت في الوصف كالصحيحة مع الشلاء يمنع جريان القصاص، ولا ينظر إلى ترجيح جانب المظلوم وإلى ترجيح جانب الأصل على الوصف، فعرفنا أن قوة الثبات فيما قلنا. وعلى هذا قلنا: إن ملك النكاح لا يضمن بالاتلاف في الشهادة على الطلاق قبل الدخول، وملك القصاص لا يضمن بالاتلاف في الشهادة على العفو، وقد بينا فيما سبق أن وجوب الدية عند إتلاف النفس أو الاطراف على وجه لا يمكن إيجاب المثل فيه حكم ثابت بالنص بخلاف القياس وهو لصيانة المحل عن الاهدار لا للماثلة على وجه الخبران، لأن النفوس بأطرافها مصونة عن الابتذال وعن الاهدار. وأما الوجه الثالث: وهو الترجيح بكثرة الاصول فلان كثرة الاصول في المعنى الذي صار الوصف به حجة بمنزلة الاشتهار في المعنى الذي صار الخبر به حجة، وهذا يظهر إذا تأملت فيما ذكرنا من المسائل وغيرها، وما من نوع من هذه الانواع الثلاثة إذا قررته في مسألة إلا وتبين به إمكان تقرير النوعين الآخرين فيه أيضا. وأما الوجه الرابع: وهو الترجيح بعدم الحكم عند عدم العلة فهو أضعف وجوه الترجيح، لما بينا أن العدم (لا يوجب شيئا، وأن العدم لا يكون متعلقا بعلة، ولكن انعدام الحكم عند انعدام العلة) يصلح أن يكون دليلا على وكادة اتصال الحكم بالعلة، فمن هذا الوجه يصلح للترجيح. وبيانه في المسح بالرأس أيضا، فإن التعليل بأنه ركن لا يكون في القوة كالتعليل بأنه مسح، لأن حكم ثبوت التكرار لا ينعدم بانعدام الركنية كما في المضمضة والاستنشاق، وحكم سقوط التكرار ينعدم بانعدام وصف المسح كما في اغتسال الجنب والحائض، فإنه يسن فيه صفة التكرار لانه ليس بمسح. وكذلك في كل ما يعقل تطهيرا صفة التكرار فيه يكون مسنونا، وفيما لا يعقل تطهيرا لا يسن فيه صفة التكرار، وقولنا مسح ينبئ عن ذلك. وكذلك قلنا في الاخ إذا ملك أخته إن بينهما قرابة محرمة للنكاح، وينعدم حكم العتق بالملك عند انعدام هذا المعنى كما في بني الاعمام، وهو إذا قال شخصان يجوز لاحدهما أن يضع زكاة ماله في صاحبه فلا يعتق أحدهما على صاحبه إذا ملكه لانعدام هذا الحكم عند انعدام هذا المعنى، فإن المسلم لا يجوز له أن يضع زكاة ماله في الكافر، وذلك لا يدل على أنه يعتق أحدهما على صاحبه إذا ملكه. وكذلك قلنا في بيع الطعام بالطعام إنه لا يشترط قبضه في المجلس لانه عين بعين، وينعدم هذا الحكم عند انعدام هذا الوصف، فإنه في باب الصرف يشترط القبض من الجانبين، لأن الأصل فيه النقود وهي لا تتعين في العقود فكان دينا بدين، وفي السلم يشترط القبض في رأس المال، لأن المسلم فيه دين ورأس المال في الغالب نقد فيكون دينا بدين، فعرفنا أنه ينعدم الحكم عند انعدام العلة. وهو يعلل فيقول: مالان لو قوبل كل واحد منهما بجنسه يحرم التفاضل بينهما فيشترط التقابض في بيع أحدهما بالآخر كالذهب والفضة. ثم الحكم لا ينعدم عند انعدام هذا المعنى في السلم، فإنه يشترط قبض رأس المال في المجلس، وإن جمع العقد هناك بدلين لا يحرم التفاضل إذا قوبل كل واحد منهما بجنسه. فهذا بيان الفصل الرابع. فصل وأما المخلص من التعارض في دليل الترجيح فطريق بيانه أن نقول: إن كل محدث موجود بصورته ومعناه الذي هو حقيقة له، ثم تقوم به أحوال تحدث عليه، فإذا قام دليل الترجيح لمعنى في ذات أحد المتعارضين وعارضه دليل الترجيح لمعنى في حال الآخر على مخالفة الأول فإنه يرجح المعنى الذي هو في الذات على المعنى الذي هو في الحال لوجهين: أحدهما أن الذات أسبق وجودا من الحال، فبعدما وقع الترجيح لمعنى فيه لا يتغير بما حدث من معنى في حال الآخر بعد ذلك، بمنزلة ما لو اتصل الحكم باجتهاد فتأيد به ثم لم ينسخ بما يحدث من اجتهاد آخر بعد ذلك، وإذا اتصل الحكم بشهادة المستورين بالنسب أو النكاح لرجل لم يتغير بعد ذلك بشهادة عدلين لآخر. والثاني أن الاحوال التي تحدث على الذات تقوم به فكان الذات بمنزلة الأصل وما يقوم به من الحال بمنزلة التبع، والأصل لا يتغير بالتبع على أي وجه كان. وبيان هذا فيما اتفقوا عليه أن ابن الاخ لاب وأم يكون مقدما في العصوبة على العم، لأن المرجح فيه معنى في ذات القرابة وهو الاخوة التي هي مقدمة على العمومة، وفي العم المرجح هو زيادة القرب باعتبار الحال. وكذلك العمة لام مع الخالة لاب وأم إذا اجتمعتا فللعمة الثلثان، باعتبار أن المرجح في حقها هو معنى في ذات القرابة وهو الادلاء بالاب، وفي الاخرى معنى في حالها وهو اتصالها من الجانبين بأم الميت. ولو كانا أخوين أحدهما لاب وأم والآخر لاب فإنه يقدم في العصوبة الذي لاب وأم، لانهما استويا في ذات القرابة فيصار إلى الترجيح باعتبار الحال وهو زيادة الاتصال لاحدهما. ولو كان ابن الاخ لاب معه ابن ابن أخ لاب وأم فإن الاخ لاب يقدم في العصوبة، باعتبار الحال لما استويا في ذات القرابة وهو الاخوة. وربما خفي على الشافعي هذا الحد في بعض المسائل فهو معذور لكونه خفيا، ومن أصاب مركز الدليل فهو مأجور مشكور. وبيانه في مسائل الغصب فإن علماءنا أثبتوا الترجيح باعتبار الصناعة والخياطة والطبخ والشي، وقالوا فيمن غصب ساحة وأدخلها في بنائه ينقطع حق المغصوب منه عن الساحة، لأن الصنعة التي أحدثها الغاصب فيها قائمة من كل وجه غير مضاف إلى صاحب العين، وعين الساحة قائم من وجه مستهلك من وجه، لانه صار مضافا إلى الحادث بعمل الغاصب وهو البناء، فرجحنا ما هو قائم من كل وجه باعتبار معنى في الذات، وأسقطنا اعتبار معنى قوة الحال في الجانب الآخر وهو أنه أصل، وفي الساحة إذا بنى عليها لما استويا في أن كل واحد منهما قائم من كل وجه، فرجحنا باعتبار الحال حق صاحب الساحة على حق صاحب البناء (لان قوام البناء) للحال بالساحة وقوام الساحة ليس بالبناء. وكذلك الثوب إذا قطعه وخاطه، واللحم إذا طبخه أو شواه، لأن الوصف الحادث بعمل الغاصب قائم من كل وجه، وما هو حق المغصوب منه قائم من وجه مستهلك من وجه باعتبار العمل المضاف إلى الغاصب، فيترجح ما هو قائم من كل وجه. وكذلك قلنا صوم رمضان يتأدى بالنية الموجودة في أكثر النهار لأن الامساك في جميع النهار ركن واحد، وشرط كونه صوما شرعيا النية ليحصل بها الاخلاص، فإذا ترجح جانب الوجود باقتران النية بأكثر هذا الركن قلنا يحصل به امتثال الامر. ف الشافعي يقول: يؤخذ في العبادات بالاحتياط، فإذا انعدمت النية في جزء من هذا الركن يترجح جانب العدم على جانب الوجود لاجل الاحتياط في أداء الفريضة، فكان ما اعتبره معنى في الحال وهو أنه فرض يؤخذ فيه بالاحتياط، وما اعتبرناه معنى في الذات، والمرجح في الذات أولى بالاعتبار من المرجح في الحال. وقال أبو حنيفة: إذا كان لرجل مائتا درهم وخمس من الابل السائمة فسبق حول السائمة فأدى عنها شاة ثم باعها بمائتي درهم فإنه لا يضم ثمنها إلى ما عنده ولكن ينعقد على الثمن حول جديد، فلو استفاد مائتي درهم بهبة أو ميراث فإنه يضمها إلى أقرب المالين في الحول، وإن كان المستفاد ربح أحد المالين أو زيادة متولدة من عين أحد المالين يضم ذلك إلى الأصل، وإن كان أبعد في الحول لأن المرجح هنا معنى في الذات وهو كونه نماء أحد المالين فيسقط بمقابلته اعتبار الحال في المال الآخر وهو القرب في الحول، وفي الأول لما استوى الجانبان فيما يرجع إلى الذات صرنا إلى الترجيح باعتبار الحال. والمسائل على هذا الأصل يكثر تعدادها، والله أعلم. فصل وأما الفاسد من الترجيح فأنواع أربعة: أحدها ما بينا من ترجيح قياس بقياس آخر، لأن كل واحد منهما علة شرعية لثبوت الحكم بها فلا تكون إحداهما مرجحة للاخرى بمنزلة زيادة العدد في الشهود. وكذلك ترجيح أحد القياسين بالخبر فاسد، لأن القياس متروك بالخبر فلا يكون حجة في مقابلته والمصير إلى الترجيح بعد وقوع التعارض باعتبار المماثلة كما بينا. وكذلك ترجيح أحد الخبرين بنص الكتاب فاسد، لأن الخبر لا يكون حجة في معارضة النص. والنوع الثاني الترجيح بكثرة الاشباه فإنه فاسد عندنا. وبيانه فيما يقوله الخصم: إن الاخ يشبه الاب من وجه وهو المحرمية ويشبه ابن العم من وجوه نحو جريان القصاص من الطرفين، وقبول شهادة كل واحد منهما لصاحبه، وجواز وضع الزكاة لكل واحد منهما في صاحبه، وحل حليلة كل واحد منهما لصاحبه وغير ذلك من الاحكام. قالوا: فيرجح باعتبار كثرة الاشباه، وهو فاسد عندنا لأن الاصول شواهد، وقد بينا أن الترجيح بزيادة عدد الشهود في الخصومات فاسد، وفي الاحكام الترجيح بكثرة العلل فاسد، فكذلك الترجيح بكثرة الاشباه. والنوع الثالث الترجيح بعموم العلة، وذلك نحو ما يقوله الخصم: إن تعليل حكم الربا في الاشياء الاربعة بالطعم أولى لانه يعم القليل والكثير، والتعليل بالقدر يخص الكثير وما يكون أعم فهو أولى. وعندنا هذا فاسد، لأن إثبات الحكم بالعلة فرع لاثبات الحكم بالنص، وعندنا الترجيح في النصوص لا يقع بالعموم والخصوص، وعنده الخاص يقضي على العام، كيف يقول في العلل إن ما يكون أعم فهو مرجح على ما يكون أخص، ثم معنى العموم والخصوص يبتنى على الصيغة، وذلك إنما يكون في النصوص، فأما العلل فالمعتبر فيها التأثير أو الاحالة على حسب ما اختلفا فيه، ولا مدخل للعموم والخصوص في ذلك. والنوع الرابع الترجيح بقلة الاوصاف، وذلك نحو ما يقوله الخصم في أن ما جعلته علة في باب الربا وصف واحد وهو الطعم، فأما الجنسية عندي شرط وأنتم تجعلون علة الربا ذات وصفين، فتترجح علتي باعتبار قلة الاوصاف. وهذا فاسد عندنا لما بينا أن ثبوت الحكم بالعلة فرع لثبوته بالنص، والنص الذي فيه بعض الايجاز والاختصار لا يترجح على ما فيه بعض الاشباع في البيان فكذلك العلة بل أولى، لأن ثبوت الحكم هناك بصيغة النص الذي يتحقق فيه الاختصار والاشباع، وهنا باعتبار المعنى المؤثر ولا يتحقق فيه الايجاز والاشباع. باب: وجوه الاعتراض على العلل الطردية التي يجوز الاحتجاج بها هذه الوجوه أربعة: القول بموجب العلة، ثم الممانعة، ثم بيان فساد الوضع، ثم النقض. فنقدم بيان القول بموجب العلة لأن المصير إلى المنازعة عند تعذر إمكان الموافقة، وأما مع إمكان الموافقة وتحصيل المقصود به فلا معنى للمصير إلى المنازعة. ثم تفسير القول بموجب العلة هو التزام ما رام المعلل التزامه بتعليله. وبيان ذلك فيما علل به الشافعي رحمه الله في تكرار المسح بالرأس أنه ركن في الوضوء فيسن تثليثه كالغسل في المغسول، لانا نقول بموجب هذا. فنقول: يسن تثليثه وتربيعه أيضا، لأن المفروض هو المسح بربع الرأس عندنا، وعنده أدنى ما يتناوله الاسم، ثم استيعاب جميع الرأس بالمسح سنة، وبالاستيعاب يحصل التثليث والتربيع ولكن في محل غير المحل الذي قام فيه الفرض، لانه لا فرق بين أن يكون تثليث الفعل في محل أو محال، فإن من دخل ثلاث أدور يقول دخلت ثلاث دخلات، كما أن من دخل دارا واحدة ثلاث مرات يقول دخلت ثلاث دخلات، فإن غير الحكم فقال وجب أن يسن تكراره. قلنا: الآن هذا في الأصل ممنوع، فإن المسنون في الغسل ليس هو التكرار مقصودا عندنا بل الاكمال، وذلك بالزيادة على الفريضة إلا أن هناك الاستيعاب فرض، فالزيادة بعد ذلك الاكمال لا يكون إلا بالتكرار، فكان وقوع التكرار فيه اتفاقا لا أن يكون مقصودا، وهنا الاستيعاب ليس بفرض فيحصل الاكمال فيه بالاستيعاب لوجود الزيادة على القدر المفروض، والاكمال يحصل به في الاركان نحو القراءة في الصلاة، فالاكمال يكون فيه بالاطالة لا بالتكرار، وكذلك الاكمال في الركوع والسجود، ولأن الاكمال فيما يعقل فيه المعنى وهو التطهير بتسييل الماء على العضو إنما يكون بالتكرار كما في غسل النجاسة العينية عن البدن أو الثوب يكون الاكمال فيه بالتكرار إلى طمأنينة القلب، فأما في المسح الذي لا يعقل فيه معنى التطهير لا يكون للتكرار فيه تأثير في الاكمال، بل الاكمال فيه يكون بالاستيعاب الذي فيه زيادة على القدر المفروض، وعند ذلك يضطر المعلل إلى الرجوع إلى طلب التأثير بوصف الركنية ووصف المسح الذي تدور عليه المسألة، ثم يظهر تأثير المسح في التخفيف، وتحقيق معنى الاكمال فيه بالاستيعاب كما في المسح بالخف، ويتبين أنه لا أثر للركنية في اشتراط التكرار، فإن التكرار مسنون في المضمضة والاستنشاق مع انعدام الركنية، ويتبين أن ما يكون ركنا وما يكون سنة وما يكون أصلا وما يكون رخصة في معنى الاكمال بالزيادة على القدر المفروض سواء، ثم في المسح الذي هو رخصة لما لم يكن الاستيعاب ركنا كالمسح بالخف كان الاكمال فيه بالاستيعاب لا بالتكرار، وكذلك في المسح الذي هو أصل، وفيما يكون مسنونا لما كان إقامة أصل السنة فيه بالاستيعاب كان الاكمال فيه بالتكرار كالمضمضة، وكذلك فيما هو ركن إذا كان إقامة الفرض لا تحصل إلا بالاستيعاب كان الاكمال فيه بالتكرار، فيظهر فقه المسألة من هذا الوجه. ومن ذلك ما علل به الشافعي في صوم التطوع إنه باشر فعل قربة لا يمضي في فاسدها فلا يلزمه القضاء بالافساد، لانا نقول بموجب هذه العلة، فإن عندنا القضاء لا يجب بالافساد وإنما يجب بما وجب به الاداء وهو الشروع، فإن غير العبارة وقال وجب أن لا يلزم بالشروع كالوضوء. قلنا: الشروع في العبادة باعتبار كونها مما لا يمضي في فاسدها لا يكون ملزما عندنا بل باعتبار كونها مما تلتزم بالنذر، وعدم اللزوم باعتبار الوصف الذي قاله لا يمنع اللزوم باعتبار الوصف الذي قلنا، ولا بد من إضافة الحكم إلى الوصف الذي هو ركن تعليله، فإن لم يجب باعتبار وصف لا يدل على أنه لا يجب باعتبار وصف آخر، وعند ذلك يضطر إلى إقامة الدليل على أن الشروع غير ملزم وأنه ليس نظير النذر في كونه ملزما، فتبين فقه المسألة. ومن ذلك قولهم إسلام المروي في المروي جائز لانه أسلم مذروعا في مذروع فيجوز كإسلام الهروي بالمروي، لانا نقول بموجبه، فإن كونه مذروعا في مذروع لا يفسد العقد عندنا ولكن هذا الوصف لا يمنع فساد العقد باعتبار معنى آخر هو مفسد، ألا ترى أنه يفسد بذكر شرط فاسد فيه وبترك قبض رأس المال في المجلس مع أنه أسلم مذروعا في مذروع. فإذا جاز أن يفسد هذا العقد مع وجود هذا الوصف باعتبار معنى آخر بالاتفاق فلماذا لا يجوز أن يفسد باعتبار الجنسية، فيضطر عند ذلك إلى الشروع في فقه المسألة والاشتغال بأن الجنسية لا تصلح علة لفساد هذا العقد بها إن أمكنه ذلك. ومن ذلك تعليلهم في الطلاق الرجعي إنها مطلقة فتكون محرمة الوطئ كالمبانة، لانا نقول بموجبه، فإنا لا نجعلها محللة الوطئ لكونها مطلقة بل لكونها منكوحة، وبالاتفاق مع كونها مطلقة إذا كانت منكوحة تكون محللة الوطئ كما بعد المراجعة، فإن الطلاق الواقع بالرجعة لا يرتفع ولا تخرج من أن تكون مطلقة، فيضطر حينئذ إلى الرجوع إلى فقه المسألة، وهو أن وقوع الطلاق هل يمكن خللا في النكاح أو هل يكون محرما للوطئ مع قيام ملك النكاح، وعلى هذا يدور فقه المسألة. ومن ذلك ما قالوا في المختلعة لا يلحقها الطلاق لانها ليست بمنكوحة، فإن عندنا باعتبار هذا الوصف لا يكون محلا لوقوع الطلاق عليها عند الايقاع، ولكن هذا لا يبقى وصفا آخر فيها يكون به محلا لوقوع الطلاق عليها، وهو ملك اليد الباقي له عليها ببقاء العدة، فيضطر بهذا إلى الرجوع إلى فقه المسألة. ومن ذلك تعليلهم في إعتاق الرقبة الكافرة عن كفارة الظهار فإنه تحرير في تكفير فلا يتأدى بالرقبة الكافرة كما في كفارة القتل، لانا نقول بموجب هذا، فإن عندنا لا يتأدى الواجب من الكفارة بهذا الوصف الذي قال بل بوجود الامتثال منه للامر، كما يتأدى بصوم شهرين متتابعين، وبإطعام ستين مسكينا عند العجز عن الصوم، فيضطر عند ذلك إلى الرجوع إلى فقه المسألة، وهو أن الامتثال لا يحصل هنا بتحرير الرقبة الكافرة كما لا يحصل في كفارة القتل، لأن المطلق محمول على المقيد. ومن ذلك قولهم في الاخ إنه لا يعتق على أخيه إذا ملكه لانه ليس بينهما جزئية، فإنا نقول بموجبه، فباعتبار انعدام الجزئية بينهما لا يثبت العتق عندنا، ولكن انعدام الجزئية لا ينفي وجود وصف آخر به تتم علة العتق وهو القرابة المحرمة للنكاح، فيضطر عند ذلك إلى الشروع في فقه المسألة، وهو أن القرابة المحرمة للنكاح هل تصلح متممة لعلة العتق مع الملك بدون الولاد أم لا. وأكثر ما يذكر من العلل الطردية يأتي عليها هذا النوع من الاعتراض، وهو طريق حسن لالجاء أصحاب الطرد إلى الشروع في فقه المسألة.
|